للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم أنه رشد، فإن الله عز وجل قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين) ، أفيرى الله عز وجل شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا المعنى:

إذا اشتبه الأمران يوماً وأشكلا ... عليَّ ولم أعرف صواباً ولم أدر

سألت أبا بكر خليلي محمداً ... فقلت له: ماتستحب من الأمر

فإن قال قولاً قلت خلافه ... لأن خلاف الحق قول أبي بكر

وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني. فقال أبو الأسود:

غضب الأمير بأن صدقت وربما ... غضب الأمير على البري المسلم

ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلاً ياأبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به:

أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... كر الجديدين من آت ومنطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعة الحدق

قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها ... في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق

والآن حين خضبت الرأس فاقني ... ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي

وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان. وأنشأ يقول:

زعم الأمير بأن كبرت وربما ... نال المكارم من يدبُّ على العصا

أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ ... فرَّجته بالمكر مني والدَّها

مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال: إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة -، فقال أبو الأسود:

كساك ولم تستكسه فاشكرن له ... أخُ لك يعطيك الجميل وناصر

وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر

وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر! وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله عز وجل، فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً وقبل أن تولدوا! قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب كيلا تعيروا.

وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان. وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال:

العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا

لاخير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا

كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا

في بيت مكرمة أباؤه نجب ... كانوا رؤوساً فأمسى بعدهم ذنبا

وخامل مقرف الأباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا

<<  <   >  >>