وقال الأصمعي: أتى خادم للرشيد فقال: أجب أمير المؤمنين! قلتُ: فيم يدعوني؟ قال: لاعلم لي، ولكن سمعته ومن عنده من بني هاشم يتذاكرون الرُطب، فاختار كلُّ واحد منهم صنفا. قلت: فأي الأصناف اختار أمير المؤمنين؟ قال: الريثا. قلت: وما أختار عيسى بن جعفر؟ قال: الأزاد. قلت: امض! فلما دخلتُ وسلمت قال: ههنا، يابصري! ثمّ قال: ايُّ الرطب أطيب عندكم؟ قلت: ياأمير المؤمنين، أصف لك جميع أجناسه، ثمّ الاختيار إليك! قال: نعم. قلت: الذي هو عماد المال وأكثر التمران البرني والشهريز، ويعلم أميرُ المؤمنين لم سمي البرني برنياً والشهريز شهريزا؟ قال: لم؟ قلت: لأن كسرى مر بالبرني وهو حامل فقال: اين برنيك! وهو بالفارسية: حملٌ جيدٌ، ومر بالشهريز فقال: اين سُرخ نيز! أي وهذا الأحمر أيضاً، يريد جيد، فعربا برني وشهريز. فقال: لمن كان هذا التفسير؟ وأعجبه. ثمّ قلت: وعندنا صنف يقال له البرشوم يرطب قبل أنَّ يبدو صلاح غيره، وينفذ قبل أن يرطب النخل، فهو لتكبيره وسرعة ذهابه أغلى ثمناً من غيره. وعندنا نخلةٌ يقال لها السُكّر حُلو طيبٌ هش، ورطبها من أطيب الرطب أعظمه لحاء وأرقه سحاء غير أن نواته غليظة، والحموضة إليه سريعة وقلما يصبر كنيزه. وعندنا نخلةٌ يقال لها الأزاد بسرها حُلُوٌ طيبٌ ورطبها ليس بذاك وكنيزها باقٍ صبور وهي تسمى الحُرة. وعندنا نخلة يقال لها الهلباث، نخلها من أحسن النخل منظراً، ورطبها من أطيب الرطب وينتهي في آخره وجميع الرطب يرطبُ معاً. وعندنا نخلة يقال الجيسوان يوكل بلحها وزهوها عدلُ رطب غيرها، فإذا صار إلى حد الإرطاب تغير طعمها، وحالت عن حالها؛ وعندنا نخلةٌ يقال لها الكريثاء، بسرها حلوٌ طيبٌ هش ورُطبها عذبٌ رقيقٌ ونواها ضامر لطيف وكنيزها صبور باقٍ، وبسرها إذا كثُر زهزه يقلى ويطبخ ويدَّخر، ولا يزداد على السنين إلا جودة، ويجلب إلى سائر البلدان. وأعجب من هذا، ياأمير المؤمنين، أنّ صبياننا يلعبون بنوى جميع أنواع التمور ويسمون كلَّ نواة درهما إلا نواة الكريثاء، فإنهم يسمونها ديناراً ويتبايعون بينهم أربعا وعشرين نواةً من نوى الأزاد بنواة من نوى الكريثاء. فقال هارون: أنا أبو جعفر! وكان إذا أصاب الشيء اكتنى بجعفر، وأمر لي بمائة ألف وخمسين ألفا.
وقال الأصمعي: مارأيت الرشيدُ يوماً مبتذلاً ولا شارباً ألا يوما واحداً فإني دخلت عليه ووجنتاه حمراوان، ودخل عليه أبو حفص الشطرنجي الأعمى، فقال للرشيد: أيكم سبق إلى بيت من الشعر يوافق ما في نفسي فله ألف دينار! فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي وكان يميل إليها، وفطن أبو حفص فبدرني بحدةِ العميان فقال " من الخفيف ":
مجلسٌ ينسبُ السُرورُ إليه ... لمحبٍ ريحانه ذكراك
فقال له: قد قاربت وأحسنت، لك ألفُ دينار! فبدأت أعمل بيتاً وتهيبته، فسبقني أبو حفص فقال " من الخفيف ":
كلما دارت الزجاجةُ ... زادتهُ اشتياقاً وحرقةً فبكاك
فقال له: أحسنت ولك ألف دينار! فلما رأيت ذلك قلت " من الخفيف ":
لم ينلك الرجاءُ إن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال الرشيد: أحسنت، ياأصمعي، ولك ألف دينار! ثمّ أطرق ورفع رأسه فقال: وقد قلت بيتاً، أنا فيه أشعر منكما " من الخفيف ":
فتمنيتُ أن يغشيني اللهُ ... نعاساً لعلّ عيني تراك
فقلت: ياأمير المؤمنين، أنت أشعر فخذ جوائزنا! فقال: جوائزكما لكما، فانصرفا! وقال: خرجت مع الرشيد حاجاً، فإني لفي خيمتي إذ أقبل أعرابي ومعه أمة سوداء، فقال لي: ياشيخ، اكتب لي كتاب عتق هذه الجارية! فأردت أسبر عقله فقلت: تملي عليّ وأنا أكتب. قال: اكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما أعتق فلان بن فلان أمته ميمونة السوداء، أعتقها لوجه الله تعالى وجواز العقبة. ياميمونة، إنه لاسبيل لي عليك إلا سبيل الولاء، ولا منَّة لي عليك، بل المنة لله عليَّ وعليك! وانصرف وانصرفت، فحدثت الرشيد، فأمر بعتق مائة نسمةٍ على مثل ماأملاه الأعرابي.
وقال: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي من القصيدة الطويلة " من الطويل ":
فتىً تمَّ فيه ما يسرُّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
فتىً كملتْ أعراقه غير أنه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا