ألست حقيقاً بهجرانه ... وإسماع أذنيه هجراً طويلا
قالوا: بلى والله، من كان كذلك فهو محقوق بهذا. فقال: هي أختكم، خذوا بيدها! وطلقها.
وخاصمت أمرأة أبي الأسود أبا الأسود في ولدها إلى معاوية - وكان معاوية قد حج المدينة، وكان أبو الأسود كبيراً عنده يقرب مجلسه ويسأله عن أشياء، فيقول فيها بعلم - فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين، أمتع به! إن الله جل وعز جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، ويؤمن بك الخائف، ويردع بك الحائف، فأنت الخليفة المصطفى، والأمير المرتضى، فأسأل الله عز وجل النعمة من تغيير، والبركة من غير تقتير، فقد ألجأني إليك - ياأمير المؤمنين - أمر، ضاق به عني الهم، ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، وأنا أعوذ بعد لك من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يستتر على الحرائز ذوات البعول. فقال لها معاوية: من هذا الذي شعرك بشناره؟ فقالت: أمر طلاق كان من بعل غادر، لاتأخذه من الله مخافة، ولايجد بأحد رأفة. قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه وقال: أجق ماتقول هذه المرأة؟ قال: إنها لتقولن من الحق بعضا، وليس يطيق أحدُ عليها تقضا، أما ما ذكرت من طلاقها فهو حق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أما والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولامن هفوة حضرت، كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: وأي شمائلها كرهت؟ قال: إنك مهيجها علي بلسان شديد، وجواب عتيد. قال: لابد لك من مجاوبتها، فأردد عليها قولها عند محاورتها. قال: هي ياأمير المؤمنين كثيرة الصخب، دائمة الذرب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، ولاتنكل من صخب، ولايزال منها زوجها في تعب. فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضره من المسلمين، أرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كل سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت: ياأمير المؤمنين، هو والله سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن قالفشر قائل، وإن سكت فذو ضغائن، ليث خبيث مأمن ثعلب حين يخاف، شحيح حين يضاف، إن ألتمس الجود عنده انقطع، لما يعلم من لؤم أبائه، وقصور بنائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لايحمي ذمارا، ولايضرم نارا، ولايرى جوارا، أهون الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه. فقال معاوية: ما ر أيت أعجب من هذه المراة! أنصرفي إليَّ رواحا! فلما كان العبثي جاءت، ومعاوية يخطب. فقال أبو الأسود: اللهم أكفني شرها! قالت: قد كفاك الله شري، وأرجو أن يعيذك من شر نفسك! فقال معاوية: مارأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو الأسود: ياأمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا، فتجيدها. قال: فتكلف أنت لها أبياتا، لعلك أن تقهرها بالشعر. فقال أبو الأسود:
مرحبا بالتي تجور علينا ... ثم أهلا بحامل محمول
أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول
شغلت قلبها عليَّ فراغا ... هل سمعتم بفارغ مشغول
فقالت تجيبه:
ليس من قال بالصواب وبالحق ... كمن جار عن منار السبيل
كان حجري فناءه حين يضجي ... ثم ثديي سقاءه بالأصيل
لست أبغي بواحدي ياابن حرب ... بدلا ما رأيته والجليل
وفي رواية أنها قالت: إن هذا يريد أن يغلبتي على ابني، وقد كان بطني له رعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء. فقال أبو الأسود: أبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولاسواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال معاوية:
ليس من غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالخذول
هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه، وفي قضاء الرسول
أنه ما حنث عليه ورقت ... هي أولى بذا الغلام الجميل
فدفعه معاوية إليها.
اشترى أبو الأسود جارية - يقال لها صلاح - لتخدمه، فطمعت فيه وأقبلت تتطيب وتتعرض لفراشه، فأنشأ يقول:
أصلاح إني لاأريدك للصبا ... فذري التشكل حولنا وتبدَّلي
إني أريدك للعجين وللرحا ... ولحمل قربتنا وغلي المرجل