أن يقال: لو كان الحد مفيداً لتصور المحدود، لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرَّف المحدود قبل العلم بصحة المعرِّف. والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود، إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبَر عنه، من غير تقليد المخبِر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبَر١.
الوجه الثالث:
أن من المعلوم أن أغلب الحقائق والمعلومات، يستقبلها الناس عن طريق الحواس الخمس، وهي التي تساهم في تشكيل التصورات والخرائط المختلفة للأشياء، ويؤثر على هذا التصور مجموعة من العوامل، منها ثقافة الشخص، وخلفيته المعرفية، وقناعاته الخاصة، وبيئته التي نشأ فيها، كما أن لكل واحد منا حاسته الخاصة التي يعتمد عليها أكثر من غيرها. لذلك فكل شخص له صورته الخاصة لذلك الشيء المحدود، والتي قد تختلف عن الصور التي رسمها الآخرون، فالحد إذاً لا يفيد تصوير حقيقة المحدود كما هي عليه، بل تمييزها عن غيرها.
الوجه الرابع:
أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية، ويسمونها أجزاء الحد، وأجزاء الماهية، والمقوّمة لها، والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات، فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع أن يتصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد. فثبت أنه على تقدير النقيضين لا يكون قد تصوره بالحد وأما فائدة الحد فهي من جنس فائدة الاسم، وهو التمييز بين الشيء المحدود وغيره. وأئمة المصنفين
١ - انظر: الرد على المنطقيين ص ٣٨ - ٣٩، مجموع الفتاوى٩/٩٢ - ٩٣.