للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣ - التأثير التام:

مما يستدل به الفلاسفة على قولهم بقدم العالم، هو أن الله مؤثر تام في الأزل١. والتأثير التام لفظ مجمل، وحينما يقول الفلاسفة عن الله إنه مؤثر تام في الأزل، فلا بد من الاستفصال عن معنى ذلك:

فيقال لهم: قولكم إنه مؤثر تام في الأزل، لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء في الأزل، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره.

فإن أردتم الأول، لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة، فهو ممتنع بضرورة الحس، والعقل، لأن الحوادث مشهودة، وأيضاً فكون الشيء مبدَعاً أزلياً ممتنع.

وإن أردتم الثاني، لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً، حادثاً، كائناً بعد أن لم يكن، وكان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته، فعالاً لما يشاء. وهذا يناقض قولكم، ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق، ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح. فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء.

وإن أردتم الثالث، فسد قولكم، لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلاً لها، من غير تجدد سبب يوجب الإحداث، وهذا يناقض قولكم.

فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين.

وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره، ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن، وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث، حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام، وبعضها يتراخى عنه٢.

والناس لهم في استلزام المؤثر أثره قولان:

فمن قال إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث، فإنه يقول المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه، ويقول إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه


١ - انظر: الصفدية ١/٣٩.
٢ - انظر: مجموع الفتاوى ١٢/٤٧، الصفدية ١/٥٣، ٢/١٣٦.

<<  <   >  >>