للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد خالف أهل السنة المتكلمين في إيجابهم النظر، وجعله أول واجب، ودللوا على بطلان مذهب المتكلمين من وجوه عدة منها:

أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه، كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -، لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" ١.

والقرآن ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس. وهذا موافق لقول من يقول إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به وهذا أصح الأقوال٢. كما أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ، لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ. والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع - تعالى - وبرسوله٣.

ثانياً: أن هؤلاء المتكلمين بنوا دينهم على النظر، وهو لفظ مجمل، يدخل فيه الحق والباطل، فالحق هو النظر الشرعي، والنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات، والهدى كما قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة - ١٨٥] ، ولكن لما ظهرت البدع والتبس الحق بالباطل، صار اسم النظر يطلق على ثلاثة أمور: النظر البدعي؛ فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها. ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر من غير تقييدها، لا بشرعي، ولا ببدعي، وهؤلاء أوسطهم، وهم أحسن حالاً من الذين قيدوا ذلك بالبدعي. وأما القسم الثالث فهم صفوة الأمة، وخيارها، المتبعون للرسول علماً وعملاً،


١ - سبق تخريج الحديث ص ١٦من البحث.
٢ - انظر: درء التعارض ٨/٦ - ٨.
٣ - انظر: المرجع السابق ٨/٨ - ١١.

<<  <   >  >>