ويدخل تحت هذه القاعدة قاعدة مهمة وهي قولهم:(لا تكليف بالخطاب الناسخ إلا بعد العلم به) أي إذا شرع الله شيئًا ثم نسخه بشيء فإن هذا الخطاب الآخر لا يطالب بامتثاله إلا من بلغه، وهذا هو القول الصحيح، وعلى ذلك حديث ابن عمر في نسخ القبلة وأن أهل قباء صلوا العصر إلى القبلة المنسوخة بعد نزول الناسخ وهو الأمر بالتوجه إلى الكعبة فجاءهم رجل فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل الليلة عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، فاستداروا نحوها وبنوا على صلاتهم، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرهم بإعادة هذه الصلاة التي افتتحوها إلى القبلة المنسوخة، مما يدل على أنهم إنما طولبوا بامتثال الدليل الناسخ عند بلوغه إليهم، وهذا في أهل قباء مع قربها من المدينة، فكيف بالمسلمين الأعراب ومن هاجر إلى الحبشة واليمن، ومن في أقطار الأرض من المسلمين، فبالتأكيد أن الخطاب الناسخ لم يبلغهم إلا بعد مدة، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا بالإعادة، فلا تكليف إلا بعلم مطلقًا سواءً بالتشريع ابتداءً أو بالتشريع الناسخ، وهذا هو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه تعلم أن الجهل عذر من الأعذار التي يعذر بها المكلف في ترك المأمور أو فعل المحظور جهلاً. وإنما الخلاف في نوع الجهل الذي يعذر به المكلف، والأقرب عندي هو أن الجهل عذر إذا لم يقدر المكلف على دفعه وكان مما يشق التحرز منه، وقد حققنا المسألة في كتابنا المذكور بأوسع من ذلك وذكرنا فيه من الفروع ما يشفي ويكفي، فليراجعه من شاء وإنما المقصود هنا هو الإشارة إلى أهمية هذه القاعدة، والله تعالى أعلى وأعلم.