ومنها: حديث الذي قال لأبنائه: إن مت فأحرقوني وهو معروف، وحديث المستحاضة، وحديث عمار في تيممه، وحديث أهل قباء في استدارتهم إلى القبلة، وحديث أصحاب الفترة وسيأتي - إن شاء الله تعالى -، كلها دليل على ذلك الأصل العظيم، فالإنسان لا يكلف إلا بالشيء الذي قامت عليه فيه الحجة فقط، أما ما لم تقم عليه الحجة فيه فلا تكليف عليه فيه، وغير المكلف لا يعاقب على ما لم يكلف به فإن العقوبة مرتبطة بالتكليف والتكليف لا يكون إلا بعلم، فمن لا يعلم بالشيء فإنه لا يعاقب عليه إن فعله وحقه الترك، أو تركه وحقه الفعل، وهذا من سعة رحمة الله تعالى وكمال فضله وعدله، وقولنا:(لا تكليف إلا بعلم) المراد بالعلم هنا هو ما تقوم به الحجة، والحجة لا تقوم إلا بالبلوغ والفهم أما الأول فبالإتفاق، وأما الثاني ففيه خلاف ويظهر أنه لفظي؛ لأن الجميع يشترط مطلق الفهم ولا يشترط الفهم المطلق كما هو محقق في كتابنا (المباحث الجلية) في المسألة الأولى وأيضًا قولنا: (ولا عقوبة إلا بعد إنذار) نريد بها ما يفيده قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقوله تعالى: {وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فهذا البيان هو ما نعنيه بالإنذار.