أما إذا كانت إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى فإن المشروع حينئذٍ هو فعل ما كانت مصلحته أكبر بتفويت ما كانت مصلحته أقل.
وقد دل على هاتين القاعدتين أدلة كثيرة من النقل والعقل، فأما من النقل:
فمنها: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فهنا عندنا مفسدتان ومصلحتان، فالمفسدة الأولى: هي ترك سب آلهة المشركين المجرد. والثانية: سب الله تعالى. والمصلحة الأولى: هي سب آلهة المشركين المجرد. والثانية: تركهم سب الله تعالى، والمفاسد والمصالح هنا متعارضة، فغلب الله تعالى ترك أعلى المفسدتين الذي هو سب الله تعالى بفعل الصغرى وهو ترك سب آلهة المشركين، ذلك لأن ترك سب آلهتهم وإن كان فيه مفسدة لكن أقدمنا عليه؛ لأن في فعله اقتحام مفسدة أكبر وهو سب الله تعالى، فتعارضت المفسدتان فراعينا الكبرى بفعل الصغرى؛ لأن الشريعة جاءت بتقليل المفاسد وغلب الشارع كذلك فعل أكبر المصلحتين على فعل أدناهما فقال: إن سبكم لآلهتهم مصلحة، وتركهم لسب إلهكم أيضًا مصلحة، ولكن المصلحة الثانية أعظم بكثير من المصلحة الأولى، فاتركوا المصلحة الصغرى التي هي سبكم لآلهتهم ليتحقق لكم المصلحة الكبرى وهو تركهم لسب إلهكم؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، وهذا من أقوى الأدلة على هذا الأصل.