ومنها: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهنا فيه مفسدتان ومصلحتان تعارضتا: فالمفسدة الأولى: هي الأكل من الميتة. والثانية: مفسدة هلاك النفس وتلفها وقد تعارضتا هنا، فإن المضطر إذا لم يأكل من الميتة سيموت، ولاشك أن مفسدة تلف النفس أشد من مفسدة الأكل من الميتة فجوزت الشريعة ارتكاب أدنى المفسدتين الذي هو الأكل من الميتة دفعًا للمفسدة الكبرى الذي هو هلاك النفس. وأما المصلحتان المتعارضتان: فالأولى: مصلحة إحياء النفس وحمايتها من الهلاك. والثانية: مصلحة ترك الأكل من الميتة، ولاشك أن مصلحة إحياء النفس والمحافظة عليها من الهلاك أكبر من مصلحة ترك الأكل، فجوزت الشريعة ترك المصلحة الصغرى لتتحقق المصلحة الكبرى، والله أعلم.
ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفرٍ لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين باب يدخل الناس منه وباب يخرجون منه) ففي هذا الحديث مفسدتان ومصلحتان متعارضتان: فالمفسدة الأولى: ترك البيت على وضعه الراهن. والثانية: افتتان الناس بهدم البيت،فارتكبت أدناهما وهي تركه على وضعه الراهن. وأما المصلحتان: فالأولى: بناء البيت على قواعد إبراهيم. والثانية: مصلحة عدم افتتان الناس عن الإسلام وتأليفهم عليه إلى أن يقر الإيمان في قلوبهم، ولاشك أن المصلحة الثانية هي الكبرى، فلما تعارضتا روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، فترك البيت كما هو مراعاةً لمصلحة تأليف الناس على الإسلام، والله أعلم.