ومنها: أنه يجوز لمن خاف تلف نفسه أو تلف عضوٍ من أعضائه باستعمال الماء لبردٍ ونحوه، أن ينتقل من الماء إلى التيمم كما في حديث عمرو ابن العاص الصحيح وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك، فهنا فيه مصلحتان ومفسدتان، فالمصلحتان هما: الأولى: حفظ النفس. والثانية: الصلاة بالطهارة المائية، لكنهما متعارضتان فقدمت الشريعة مصلحة حفظ النفس والطرف على مصلحة الصلاة بالطهارة المائية؛ لأن حفظ النفس أهم وأكبر من مراعاة الصلاة بالوضوء؛ ولأن الماء له بدل وهو التراب لكن النفس لا بدل لها، فالمحافظة عليها أهم من المحافظة على الصلاة بالوضوء، وأما المفسدتان فهما: الأولى: تلف النفس أو الطرف. والثانية: الصلاة بالتيمم مع وجود الماء لكن الأولى أشد فروعيت بارتكاب الصغرى، هذا إذا سلمنا أن في الصلاة بالتيمم في هذه الحالة مفسدة، لكن المقصود مجرد التفريع، والله أعلم.
ومنها: أن من طلع عليه الفجر في رمضان وهو يجامع أهله فإنه يجب عليه النزع، ذلك لأن إبقاء الذكر في الفرج بعد طلوع الفجر مفسدة عظيمة وعاقبة وخيمة، ومفسدة نزعه صغيرة ولا حرج عليه فيها؛ لأنه يريد بها التخلص، فتعارضت مفسدة الإبقاء ومفسدة النزع فروعيت مفسدة الإبقاء؛ لأنها الأشد بارتكاب مفسدة النزع؛ لأنها الصغرى.
والأدلة الشرعية كثيرة جدًا، ونكتفي بهذا القدر.
وأما الدليل النظري فلأننا قررنا سابقًا أن الشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارض مفسدتان إحداهما أكبر من الأخرى فلنا معها حالتان: الأولى: أن نحاول القضاء عليهما جميعًا وهذا هو الواجب عند القدرة عليه؛ لأنه تعطيل للمفاسد، وإذا لم نستطع تعطيلها بالكلية فإننا نحاول تقليلها ولا يكون ذلك إلا بارتكاب المفسدة الصغرى، واجتناب المفسدة الكبرى، وهذا من تقليل المفاسد.