وإن خيرية الله وعلمه وقدرته غير ماهيته، نقوله باللسان ولا يتعقله العقل. وماذا نعرف عن النفس؟ إن النفس أقرب الأشياء إلينا، ومع ذلك نجد آراء الفلاسفة فيها أكثر تضاربًا وغرابة. وماذا نعرف عن جسمنا؟ ما أعضاؤه وما أجزاؤها؟ وكيف تتصل وتتلاءم فيما بينها؟ وكيف ولم تفعل أفعالها؟ وما المرض؟ ولم ينجع بعض الأدوية دون بعض؟ لا جواب إلا جواب لفظي لا أكثر. وماذا نعرف عن الطبيعة؟ وهل نعرف حقيقة الأجرام السماوية، وحقيقة حركاتها؟ يعارض كوبرنك بطليموس، ولكن "من يدري؟ لعل رأيًا ثالثًا يظهر في مدى ألف عام فيقلب الرأيين". وإن جغرافيي العصر لمخطئون في توكيدهم أن كل شيء قد اكتشف. سقط العلم القديم، فلِمَ لا يسقط العلم الجديد بدوره؟ نحن نتوهم أننا نعلم حين نستخرج نتائج من مبادئ, ولكن ما قيمة المبادئ؟ إن كل قضية نؤيد بها رأيًا، مفتقرة هي أيضًا إلى تأييد، ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية, فتبقى المبادئ غير مثبتة. كثير أن نقول:"لا أدري" وأحرى بنا أن نقول: "ما أدراني" فنعين بذلك مبلغ العلم الإنساني. وإن أكثر الناس علمًا ليعلمون أننا لا نعلم شيئًا. فإذا كان الجهل المطبق بداية العلم، كان جهل العالم نهايته. لقد حدث للعلماء الحقيقيين بهذا الاسم مثل ما يحدث لسنابل القمح التي تصعد في الفضاء رافعة الرأس ما دامت خاوية، حتى إذا ما امتلأت حبًّا أخذت تتضع وتدلي القرون.
د- ولكن قد يقال: إذا كان علمنا على مثل هذا النقص، أفليس لنا أن نأمل علمًا أضبط في المستقبل؟ كلا، فإن آلات العلم عاجزة عن توفير اليقين, وسنظل كذلك. كيف نطمئن إلى شهادة الحواس بوجود أشياء، ونحن نعتقد في المنام بوجود ما يتراءى لنا؟ من يدرينا لعل اليقظة ضرب من المنام؟ وكيف نطمئن إلى الحواس في شهادتها بكيفيات الأشياء وعلاقاتها، وهي إنما تدرك انفعالاتها، لا الأشياء نفسها؟ ثم إن حواس الحيوان مختلفة عن حواسنا، فالحيوان لا يدرك الأشياء كما ندركها نحن. ويقال مثل ذلك عن أفراد الناس, بل إن الفرد منا يتغير باستمرار وتتغير إحساساته. ثم إن من الحيوان ما يحيا حياة كاملة وهو عاطل من البصر أو من السمع, فمن يدرينا لعلنا عاطلون من حاسة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر؟ أما العقل فليس يوثق به كذلك. إن