للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الله صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان ربي، حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال ذات يوم: (يا ربيعة، سلني فأعطيك)، قلت: أنظرني؛ حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو الله أن يجنبني النار، ويدخلني الجنة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (من أمرك بهذا)؟ قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت به، فأحببت أن تدعو الله، قال: (إني فاعل، فأعني بكثرة السجود) (١).

نعم، هذه هي الهمة العالية التي غضت عن متاع الدنيا الفاني، وطمحت إلى متاع الآخرة الباقي، وشتان بين من يفكر بربه وما يقربه إليه، ومن يفكر بمصلحته في دنياه، أو بشهوات نفسه. عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبدالله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له" (٢).

وقال أحمد بن خضرويه: " القلوب جوَّالة: إما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحُش (٣) " (٤). وكان شميط بن عجلان إذا وصف المُقبلَ على الدنيا يقول: دائب البطنة، قليل الفطنة، إنما همه بطنه وفرجه وجلده، متى أُصبِحُ فآكلُ وأشرب، وألهو وألعب، متى أُمسي فأنام! جيفةٌ بالليل، بطّال بالنهار، ويحك! ألهذا خلقتَ؟ أم بهذا


(١) المعجم الكبير (٥/ ٥٧).
(٢) حلية الأولياء، لأبي نعيم (١/ ٣٠٩).
(٣) الحش: الكنيف ومَوضع قَضاء الحاجة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (١/ ٩٦٩).
(٤) صفة الصفوة، لابن الجوزي (٤/ ١٦٤).

<<  <   >  >>