للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا ريب أن هذه الدنيا لما كانت كذلك فإنها لا تنفك عن المنغصات والغموم، والأحزان والهموم، فالمكاره ملازمة لها، والآلام لا تنقطع عنها، فدارٌ هذه حالها لا تستحق التنافس عليها.

وقد نغصها الله تعالى لعبده المؤمن حتى لا يركن إليها، وينشغل بها، ولكي يشتاق إلى لقائه في دار الآخرة، وإلى الجنة التي أعدها له إن آمن به وأحسن العمل له.

وحتى إن وجد العبد في هذه الدنيا المسرات، وذاق فيها الملذات، ولقي فيها أسباب الفرح والحبور؛ فإنها لا تدوم ولا تبقى، ولا تسلم من مشوب يكدر صفوها، فالتقلب شأنها، والتغير حالها، فلا يأمنن الإنسان إدبارها بعد إقبالها، وأتراحها بعد أفراحها، وضيقها بعد سعتها، وخوفها بعد أمنها، وسقمها بعد صحتها، وأخذها بعد عطائها، وفناءها بعد العيش فيها.

"قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب، ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيًئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام: (لو كان لابن آدم واديانِ من مال لابتغى لهما ثالثًا) وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام: محب الدنيا بشارب الخمر؛ كلما ازداد شرباً ازداد عطشًا!) (١).

قال أعرابي: " العاقل حقيق أن يسخى بنفسه عن الدنيا؛ لعلمه أن لا ينال أحد فيها شيئًا إلا قل إمتاعه به، أو كثر عناؤه فيه، واشتدت مرزئته عليه عند فراقه، وعظمت التبعة فيه بعده" (٢).

وقال في الحكم العطائية: "لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمتَ في هذه الدار؛ فإنها ما


(١) إغاثة اللهفان، لابن القيم (١/ ٣٧).
(٢) الأمالي في لغة العرب، للقالي (٢/ ٤١).

<<  <   >  >>