للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الموفَّقون في الدنيا:

إن الفوز في هذه الحياة طريقُه إماتة الهوى، والاستيقاظ من نوم الغفلة، والنظر إلى المقصد الأعلى، الذي يقرب بعيد الغاية، ويسلِّي النفس عند مواجهة مشاقها.

فالموفقون لما عرفوا " قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى؛ طلبًا لحياة الأبد، ولما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما نهبه العدو منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريق تلمحوا المقصد فقرَّب عليهم البعيد، وكلما مرَّت لهم الحياة حلا لهم تذكر: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: ١٠٣].

وركبٍ سَروا والليل مُلقٍ رواقَه … على كل مغبرِّ المطالع قاتمِ

حدوا عزماتٍ ضاعت الأرضُ بينها … فصار سُراهم في ظهور العزائم

تُريهمْ نجومَ الليل ما يبتغونه … على عاتق الشِّعرى (١) وهام النعائم

إذا اطّردتْ في معرك الجِدِّ قصَّفوا … رماحَ العطايا في صدور المكارم (٢).

وحينما عرف هؤلاء الفطناء حقيقة هذه الدنيا تخفَّفوا منها، وأزالوا عن طريقهم إلى الله العوائق، واستجابوا لداعي الحق، فأبصروا" قصدهم، وبذلوا في الطلب جهدهم، وعلموا أن العلائق عوائق، وأن المخف هو السائق، فخففوا أنفسهم وأظهرهم من أثقال الأشغال؛ لعلمهم بأن الطريق كثير المزالق، هذه سنة الكرام في طلب ذي الجلال والإكرام، فأين المقتدون؟ وهذه سبيل هداة الأنام ودار السلام، فأين المهتدون؟ عاقنا -والله- عن اقتفاء آثارهم والتعلق بأذيال غبارهم فضولُ الكلام والطعام، وشغل القلب والجوارح بكسب الحطام، استُنفِزنا في سبيل الله فثبطنا، ودُعينا إلى الجناب العالي فأبينا، إن لنا همة دنية لا تشتاق إلى العالي، ولا تنافس في طلب الغالي، ولا تأنف من الهوى ولا


(١) الشِّعرى: كوكب.
(٢) الفوائد، لابن القيم (ص: ٤٦).

<<  <   >  >>