للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصنائع إلى دار معمورة، رأيت البزّاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبنّاء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذَكرَ ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذةً ذكر الجنة؛ فهمّتُهُ متعلقةٌ بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمّ. وأعظمُ ما عندَه أنه يتخايلُ دوام البقاء في الجنة، وأنَّ بقاءه لا ينقطع ولا يزالُ ولا يعتريه منغصٌ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللَّذَّات الدائمة التي لا تفنى يطيشُ فَرَحًا، ويسهُلُ عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاءٍ، وفقد محبوبٍ، وهُجوم الموت ومعالجةِ غُصَصِهِ؛ فإنَّ المشتاق إلى الكعبة يهونُ عليه رمْلُ زَرُودَ، والتائِقُ إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء، ويعلم أن جوْدَةَ الثمر ثَمَّ على مقدار جودَةِ البَذْرِ ها هُنا؛ فهو يتخيَّرُ الأجودَ، ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتورٍ. ثم يتخايلُ المؤمن دخول النار والعقوبة، فيتنغص عيشهُ ويقوى قلقُه. فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان .. " (١).

أسرع ولا تبطئ:

فما أحسن أن تقضي عمرك في العمل للآخرة، وتسارع إلى كل عمل يسعدك فيها، وتتقرب إليه بما آتاك الله في هذه الحياة الدنيا. قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: ١٩]. وقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة) (٢).

وإياك والتسويف وطول الأمل؛ فإن الدنيا مولية عنك، والآخرة مقبلة عليك. قال


(١) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: ٣٠٨).
(٢) رواه أبو داود (٤/ ٤٠٣)، والحاكم (١/ ١٣٢)، وهو صحيح.

<<  <   >  >>