للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يعرف حقيقة الدنيا، ثم يزهد فيها، ويعرض عن زينتها وما يلهيه عن الآخرة من عرضها ومتاعها؛ فإن التعلق بالدنيا، والانغماس في شهواتها يقف عائقًا في طريق العمل للآخرة.

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء)، قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: (ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولْتذكرِ الموتَ والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) (١).

قال المناوي: "قوله: (وليذكر الموت والبلى)؛ لأن من ذكر أن عظامه تصير بالية، وأعضاؤه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمّه ما يلزمه من طلب الآجلة، وعمل على إجلال الله وتعظيمه، وهذا معنى قوله: (ومن أراد الآخرة) أي: الفوز بنعيمها (ترك زينة الدنيا)؛ لأن الآخرة خُلقت لحظوظ الأرواح، وقرة عين الإنسان، والدنيا خُلقت لمرافق النفوس وهما ضرتان: إذا أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، فمن أراد الآخرة وتشبث بالدنيا كان كمن أراد أن يدخل دار ملك دعاه لضيافته وعلى عاتقه جيفة، والملك بينه، وبين الدار عليه طريقُه، وبين يديه ممرُّه وسلوكه، فكيف يكون حياؤه منه؟ فكذا مريد الآخرة مع تمسكه بالدنيا، فإذا كان هذا حال من أراد الآخرة فكيف بمن أراد من ليس كمثله شيء؟ فمن أراد الله فليرفض جميع ما سواه استحياء منه بحيث لا يرى إلا إياه" (٢). وقال أحمد بن أبي الحواري: "من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه" (٣). وقال أيضًا: " سمعت أبا سليمان يقول: إذا سكنت الدنيا في القلب ترحّلت منه الآخرة" (٤). وكتب عمر إلى أبي موسى: "إنك لن


(١) رواه الترمذي (٤/ ٦٣٧)، وهو حسن.
(٢) فيض القدير، للمناوي (١/ ٤٨٧).
(٣) الزهد الكبير، للبيهقي (ص: ١٤٠).
(٤) المرجع السابق (ص: ١٣٥).

<<  <   >  >>