للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دنياه ولذاتِه، وأهله وأقاربه وأحبابه، وهو الذي يبقى فيه المرء وحيداً فريداً من غير أنيس من البشر، وهو المكان الذي تتغير فيه ملامح الإنسان فيذهب عن بدنه حسنه ورونقه وجماله وقوته، وهو المكان الذي يلقى فيه المقبور أوائل جزائه الأخروي؛ فلهذا كان لذكره وقعٌ في قلوب الصالحين، ودمعٌ على خدود الناسكين، وجِدٌّ واجتهاد في عمل العاملين الصادقين؛ ولأجل تذكره حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة القبور.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة) (١). وعند مسلم: (فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت) (٢).

قال المناوي: " قالوا: ليس للقلوب -سيما القاسية- أنفع من زيارة القبور؛ فزيارتها وذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب، وزيارة القبور تبلغ في دفع رَين القلب واستحكام دواعي الذنب ما لا يبلغه غيرها؛ فإنه وإن كان مشاهدة المحتضر تزعج أكثر لكنه غير ممكن في كل وقت، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في كل أسبوع بخلاف الزيارة" (٣).

قفْ بالمقابرِ وانظرْ إنْ وقفتَ بها … للّه درّك ماذا تسترُ الحفرُ؟

ففيهمُ لك يا مغرورُ موعظةٌ … وفيهمُ لك يا مغترُّ معتبَرُ (٤).

شيّع عمر بن عبد العزيز مرّةً جنازةً من أهله، ثمّ أقبل على أصحابه ووعظهم، فذكر الدّنيا فذمّها وذكر أهلها، وتنعّمهم فيها، وما صاروا إليه بعدها من القبور، فكان من كلامه أنّه قال: "إذا مررتَ بهم فنادِهم إن كنت مناديا، وادعهم إن كنت داعيا، ومرّ بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيّهم: ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم: ما بقي


(١) رواه ابن ماجه (١/ ٥٠٠)، وهو صحيح.
(٢) صحيح مسلم (٢/ ٦٧١).
(٣) فيض القدير، للمناوي (٤/ ٦٧).
(٤) أهوال القبور، لابن رجب (ص: ٢٤٤).

<<  <   >  >>