للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من فقره؟ واسألهم عن الألسن الّتي كانوا بها يتكلّمون، وعن الأعين الّتي كانوا للّذّات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرّقيقة والوجوه الحسنة والأجساد النّاعمة ما صنع بها الدّيدان تحت الأكفان، وأكلت اللّحيان (١)، وعُفِّرت الوجوه، ومُحيت المحاسن، وكُسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومُزِّقت الأشلاء. وأين حُجَّابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم، وكأنّهم ما وطئوا فراشا، ولا وضعوا هنا متّكأ ولا غرسوا شجرا، ولا أنزلوهم من اللّحد قرارا، أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس اللّيل والنّهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمّة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبّة، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم ممزّقة، وقد سالت الحَدَق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دمًا وصديداً، ودبّت دوابّ الأرض في أجسادهم، ففرّقت أعضاءهم، ثمّ لم يلبثوا إلّا يسيراً حتّى عادت العظام رميمًا، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السّعة إلى المضائق، قد تزوّجت نساؤهم، وتردّدت في الطّرق أبناؤهم، وتوّزعت القرابات ديارهم وقُراهم، فمنهم -واللّه- الموسّع له في قبره، الغضّ النّاظر فيه المتنعّم بلذّاته، يا ساكن القبر غداً ما الّذي غرّك من الدّنيا، أين دارك الفيحاء ونهرك المطّرد؟ وأين ثمارك الينيعة؟ وأين رِقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد زلّ به الأمر، فما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقا، ويتلمّظ عطشا، يتقلّب في سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السّماء، وجاء غالب القدر والقضاء، هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفّن الميّت ويا مُدخله في القبر، وراجعًا عنه، ليت شعري بأيّ خدّيك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلّة الموت، ليت شعري ما الّذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدّنيا وما يأتيني به من رسالة ربّي". ثمّ انصرف فما عاش بعد ذلك إلّا جمعة" (٢) رحمه الله.


(١) اللحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان. المعجم الوسيط (٢/ ٨٢٠).
(٢) أهوال القبور، لابن رجب (ص: ٢٣٨) وما بعدها.

<<  <   >  >>