للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وروي عنه أنّه قال في آخر خطبة خطبها- رحمة اللّه عليه-: "ألا ترون أنّكم في أسلاب الهالكين (١)، ثمّ يرثها بعدكم الباقون كذلك، حتّى تردّ إلى خير الوارثين، وفي كلّ يوم تشيّعون غاديًا ورائحًا قد قضى نحبه، فتودّعونه وتدعونه في صدع-شق- من الأرض، غير ممهّد ولا موسّد، قد فارق الأحباب، وخلع الأسباب، وسكن التّراب، وواجه الحساب، غنيًّا عمّا خلّف، فقيراً إلى ما قدّم. وكان ينشد هذه الأبيات:

من كان حين تُصيب الشّمسُ جبهتَه … أو الغبارُ يخاف الشَّين والشّعثا

ويألف الظّلَّ كي تبقى بشاشتُه … فكيف يسكن يومًا راغمًا جَدثًا؟

في ظلِّ مُقفرةٍ غبراءَ مظلمةٍ … يُطيلُ تحت الثّرى في غمِّه اللّبثا

تجهّزي بجهازٍ تبلغين به … يا نفسُ قبل الرّدى لم تخلقي عبثا (٢).

وعن الفضيل بن عياض قال: رأيت رجلاً يبكي، قلت: وما يبكيك؟ قال: أبكاني كلامه. قلت: ما هو؟ قال: كنّا وقوفًا في المقابر فأنشدوا:

أتيتُ القبورَ فساءلتُها … فأين المعظَّم والمحتقرْ؟

وأين المُدلُّ بسلطانه؟ … وأين القويُّ إذا ما قدرْ

تفانَوا جميعًا فما مخبر … وماتوا جميعًا ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا … أما لك فيما ترى معتبَر؟

تروح وتغدو بناتُ الثّرى … فتمحو محاسنَ تلك الصّور (٣).

عن الحسن البصري أنّه مرّ به شابّ، وعليه بردة له حسنة فقال: "ابنُ آدم معجب


(١) أسلاب: جمع سلب، والسلب: ما يُسلب، يقال: أخذ سلب القتيل ما معه من ثياب وسلاح ودابة. المعجم الوسيط (١/ ٤٤١).
(٢) أهوال القبور، لابن رجب (ص: ٢٣٨).
(٣) المرجع السابق (ص: ٢٢٠).

<<  <   >  >>