للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وما يمنع القلوبَ -رحمك الله- من الانشقاق والانصداع والانفطار والانقطاع؛ والذي يلقى المختوم له بهذه الخاتمة عذاب لا تقوم السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته، وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون هو، وما الذي أمّنه منه، وما الذي حاد به عنه، والخاتمة مغيبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة، والنفس كما تدري، والشيطان منها بحيث تدري، وهي مصغية إليه، ملتفتة نحوه مقبلة عليه؟! " (١).

وقال أيضًا: "فانظر -رحمك الله- كيف تقر عينُ عاقل في هذه الدار، وكيف يستقر به فيها قرار مع هذه الحال، وتوقع هذا المآل، واشتغال هذا الخاطر وتقسم هذا البال، كلا لا حلول له ولا قرار، ولا ريع ولا دار، ولا قلب إلا مستطار، ولا نوم ينامه إلا غرار، حتى يدري أين مسقط رأسه، ومحط رجله، وما المورد والمنهل، وفي أي المحال يحل، وفي أي المنازل بعد الموت ينزل، كما قال الأول:

وكيف تنامُ العينُ وهي قريرةٌ … ولم تدرِ في أيِّ المنازل تنزلُ!

وقد بكى أولو الألباب على هذا فأكثروا، وسهروا من أجله الليالي الطويلة وأسهروا، ورام عاذلوهم كفهم عما هم فيه فلم يقدروا، وكلموهم في الإقصار فلم يقصروا، ولم يسمعوا ولم يبصروا، وذلك للعلم الذي لاح لهم، والتأييد الذي شملهم، والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدهم عن طريق الله عز وجل وشغلهم، وربما هبّت عليهم نفحات الرجاء فاستبشروا وسكنوا من ذلك الهيجان وفتروا، ثم ذكروا ما هم معرضون له فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد وربما زادوا عليه وأكثروا، ومع هذا فإنهم لشدة خوفهم وكثرة جزعهم يحسبون كل صيحة عليهم ويظنون كل إشارة إنما يشار بها إليهم،

وبكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه إنما أبكي خوف الخاتمة.

وبكى سفيان وغير سفيان؛ لأنه الأمر الذي يبكى عليه، ويصرف الاهتمام كله إليه،


(١) العاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي (ص: ١٧١).

<<  <   >  >>