للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإن علمه الذي تعلمه وبالٌ عليه وحجة عليه. قال الزرنوجي: "وإنما شرف العلم بكونه وسيلة إلى البر والتقوى الذي يستحق بها المرء الكرامة عند الله، والسعادة الأبدية .. فينبغي للإنسان ألا يغفل عن نفسه ما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها؛ كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه، فيزداد عقوبة، نعوذ بالله من سخطه وعقابه" (١).

وليس بمنتفع بالعلم من تعلمه لغرض دنيوي خالص؛ ينال به حظًا عاجلاً بين الناس؛ من منزلة ورتبة، أو وظيفة ورئاسة وشهرة بتميزٍ يفوق به غيره.

قال الماوردي: " ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتابًا جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني- وأنا في مجلسي- أعرابيان، فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جوابًا، فأطرقت مفكرا، وبحالي وحالهما معتبرا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب، وأنت زعيم هذه الجماعة؟ فقلت: لا. فقالا: واهًا لك، وانصرفا.

ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدين لعلمه. فبقيت مرتبكًا، وبحالهما وحالي معتبراً. وإني لعلى ما كنت عليه من المسائل إلى وقتي، فكان ذلك زاجرَ نصيحةٍ ونذير عظة، تَذلل بها قيادُ النفس، وانخفض لها جناح العُجب، توفيقًا مُنِحتُه، ورشداً أُوتيته" (٢).

وليس بمنتفع بالعلم من لم يزده العلم خشية لربه وتوقيراً، وإجلالاً وتعظيمًا، وطلبًا لرضاه وإن سخط الخلق كلهم. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]. قال عبد الله بن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية


(١) تعليم المتعلم طريق التعلم، للزرنوجى (ص: ١٥).
(٢) أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: ٨٢).

<<  <   >  >>