للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العين فوق المحبة؛ فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات" (١).

ويقول ابن القيم عن شيخه العالم بالله أبي العباس أحمد بن عبد الحليم: " وعلمَ اللهُ ما رأيتُ أحداً أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدراً وأقواهم قلبًا وأسرِّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنتَه قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته؛ هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات" (٢).

خامسًا: ذهاب الحزن والضيق، ورحيل الغموم والهموم، فمن ذاق حلاوة معرفة


(١) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: ٢٩ - ٣١).
(٢) الوابل الصيب، لابن القيم (ص: ٦٧).

<<  <   >  >>