للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الله والقرب منه والأنس به لم تدم لديه مرارات الحياة، ولا تطيل عنده الإقامة.

قال بعض الصالحين: " من عرف الله اتَّسَع عليه كلُّ ضيق" (١).

وقال ابن القيم: "وقوله-يعني: الهروي-: (معرفة الله جلا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كل غمة) كلام في غاية الحسن؛ فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبَه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب؛ فإنه لا حزن مع الله أبداً؛ ولهذا قال- حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه أبي بكر-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠]. فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما لَه والحزن، وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: ٥٨]. فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به؛ من حبيب أو حياة أو مال أو نعمة أو ملك يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها في قلبه، ونضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسروراً، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم" (٢).

سادسًا: تقليل شأن النفس، واستصغار ما تقوم به من العمل الصالح، وعدم استعظام مكانها في ميدان العبودية. فمن عرف الله تعالى حقًا رأى أن أعماله مهما عظمت وحسنت لا ترقى إلى رتبة استحقاق القبول وحسن الجزاء؛ فحق الله تعالى عليه، ونعمه التي أسداها إليه لا يستطيع بتلك الأعمال شكرها وجزاءها. وهذا الشعور يدعوه إلى


(١) بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي (ص: ١١١٢).
(٢) طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: ٤٢٠).

<<  <   >  >>