للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العربي مع وثنه تحولا ولكن استخفافا، ومثله إذ انتقل من عبادة وثن إلى عبادة كوكب لا نرى في ذلك تحولا أيضا لأنه غير مصحوب بفكر عقلي، ولكن هو انتقال من صورة مظلمة إلى صورة مشعة كتركه الحجر لحجر أحسن في صورته، أما ما يصح أن نطلق عليه "انتقالا من طور إلى طور" هو الانتقال الذي يصحبه فكر ويتبعه قضايا دينية توجب على المتدين النظر أو الشك.

لم يحصل شيء من هذا حتى عند الحنفاء الذين تشككوا في الأوثان، ورأوا أن علاج شكهم هو اختيار دين آخر، وتفرقت بهم سبل الاختيار، فلم يحاولوا عرض قضايا دينية أو قضايا فكرية، وذلك شأن العربي في الجاهلية.

أما الإسلام فكان شيئًا جديدًا وكلًّا متكاملًا، وفي ذلك ما يدل على سماويته ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ونتيجة لهذا التنقل في الاختيار وقع العربي تحت عدة تناقضات فكرية ودينية أشار إليها القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ١.

وأشار أيضا إلى لون آخر من ألوان تناقضهم في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ٢.

فمنهم من كان يعبد الله مع صنمه، ومنهم من كان لا يعبد الله مع صنمه.

وسنشير إلى ألوان من عقائدهم؛ لنرى أن الحياة العقدية في مكة لم يحكمها قانون الترقي، ولكن حكمها قانون الانتشار والتقليد؛ فانتشرت في ربوع شبه الجزيرة العربية متفرقات من الملل والنحل وعايش بعضها بعضًا.

وكان تعدد آلهة الصحراء نتيجة لحالة التشتت التي كانت تعيش فيها القبائل، ولميلها الغالب إلى التوفق، وكان الإله لا يستطيع التغلب على هذين العاملين ومد نفوذه إلى ما وراء حدود منطقته المحلية إلا نادرًا مثلما فعلت الإلهات الثلاث: اللات


١ سورة العنكبوت ٦١، ٦٣.
٢ سورة يونس ١٨.

<<  <   >  >>