فصل: في علاج العشق
ودواء هذا الداء القتال: أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن اللَّه، فعليه أن يعرف توحيد ربه من سننه وآياته أولاً، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه، ويكثر اللجأ والتضرع إلى اللَّه سبحانه في صرف ذلك عنه، وأن يرجع بقلبه إليه، وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله، وهو الدواء الذي ذكره اللَّه في كتابه حيث قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (١) [يوسف: ٢٤]، فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه، فإن القلب إذا أخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور، فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ، كما قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
انتهى.
فوائد:
قال الإمام أحمد: من دعاك إلى غير التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام.
ولقد تزوج رحمه اللَّه في اليوم الثاني من وفاة امرأته وقال: «أكره أن أبيت عزبًا».
وكان ابن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أحببت أن أتزوج حتى لا ألقي اللَّه عزبًا. ومن أقواله رضي اللَّه عنه: التمسوا الغنى في النكاح، يقول اللَّه تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: ٣٢] وقال عمر رضي اللَّه عنه: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج اللَّه نسمة تسبحه وتذكره.
وأعود إلى كلام ابن القيم رحمه اللَّه:
آفات العشق:
الأولى: الاشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه، ويكون السلطان والغلبة له.
الثانية: عذاب قلبه بمعشوقه، فإن من أحب شيئًا غير اللَّه عُذب به ولا بد كما قيل:
فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيًا في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند الفراق ... وتسخن عينه عند التلاق
والعشق وإن استلذ به صاحبه، فهو من أعظم عذاب القلب.
الثالثة: أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان، ولكنه لسكرة العشق لا يشعر بمصابه، فقلبه كالعصفور في كف الطفل يورده حياض الردى، والطفل يلهو ويلعب، فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق، ويعيش الخلي عيش المسيب المطلق، والعاشق كما قيل:
(١) أرى - واللَّه أعلم - أن من أعظم الأدعية الجالية للإخلاص قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: ٨٧]، فمن ابتلي بهذا الداء - أي العشق - فعليه الإكثار من هذا الدعاء فإنه خير دواء، وكذا سائر أدعية الكرب المتقدمة. (قل).