للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

علم المعاني، وبتخصيص كتابه "أسرار البلاغة" لمباحث الدلالة من الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة ونحوها، وهذه المباحث هي مباحث علم البيان بمعناه الذي صار إليه أخيرا، ثم ذكر المحسِّنات التي اختص بها أخيرا علم البديع، وأشار إلى منزلتها من البلاغة من رجوعها إلى التحسين لا غير، فلا تُطلَب فيها على سبيل الوجوب كما يُطلَب ما يتعلق منها بالنظم والدلالة, وقد ذهب إلى أن الحسن لا يمكن أن يكون للّفظ في ذاته من غير نظر إلى المعنى، حتى ما يُتوهم في بدء الفكرة أن الحسن فيه لا يتعدى اللفظ والجرس كالتجنيس؛ لأنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا؛ ولهذا استُقبح قول أبي تمام "من الكامل":

ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون أمَذْهب أم مُذْهَب!

لأنه لم يزد على أن أسمعك حروفا مكررة؛ تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة.

وكان أسلوب عبد القاهر في كتابيه أسلوبا بليغا ممتازا، يساعد على تربية مَلَكة البلاغة ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أن يسرف في العبارات المترادفة؛ حتى تطغى على تقرير القواعد وعلى ما عُني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية، وهو فيما عُني به من الأمرين الناقد الأديب، والبليغ الممتاز، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يُسبَق إليها، ولم يأت بعده مَنْ سار على هديها حتى لا تقف عند هذا الحد؛ لأن شمس العلم في عصره كانت آخذة في الأفول، كما يقول في ذلك "مخلع البسيط":

كبر على العلم يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم

وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم

وإذا كان هذا حال عصره, فإن حال ما بعده من العصور كان أسوأ؛ فتقهقر علم البلاغة بعده ولم يتقدم.

ثم جاء أبو يعقوب السكاكي "ت ٦٢٦هـ" بعد عبد القاهر، فلمح ما أشار

<<  <  ج: ص:  >  >>