ومنه التوجيه؛ وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين١؛ كقول من قال لأعور يسمى عمرا:
خاط لي عمرو قِبَاء ... ليت عينيه سواء٢
وعليه قوله تعالى:{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا}[النساء: ٤٦] ، قال الزمخشري:{غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب، أي: اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين:
يحتمل الذم؛ أي: اسمع منا مدعوّا عليك بـ: لا سمعت؛ لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم:"لا سمعت" دعوى مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لم تسمع شيئا، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه؛ فسمعك عنه نابٍ، ويجوز على هذا٣ أن يكون "غير مسمع" مفعول "اسمع" أي: اسمع كلاما غير مسمع إياك؛ لأن أذنك لا تعيه نُبُوًّا عنه.
ويحتمل المدح؛ أي: اسمع غير مسمع مكروها، من قولك:"أسمع فلان فلانا" إذا سَبّه.
وكذلك قوله:{وَرَاعِنَا} يحتمل "راعنا نكلمك" أي: ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل سبة؛ وهي كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي "راعينا"٤, فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل؛ ينوُون به الشتيمة والإهانة ويُظهرون به التوقير والاحترام٥.
ثم قال: فإن قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا: "سمعنا وعصينا"؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز ألا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جُعلوا كأنهم نطقوا به.