فإن أوله كناية عن الشجاعة، وآخره كناية عن السماحة.
وكذا قول أبي تمام:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا ... عدوك، فاعلم أنني غير حامد١
يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده، أي: إن لم أكن أجيد القول في مدحك حتى يدعو حسنه عدوك أن يحفظه ويلهج به صاغرا؛ فلا تَعُدني حامدا لك بما أقول فيك. ووصفه بالصَّغار؛ لأن من يحفظ مديح عدوه وينشده فقد أذل نفسه، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه٢.
وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا٣
وقول الآخر:
صلب العصا بالضرب قد دَمَّاها٤
أي: جعلها كالدُّمى في الحسن.
والغرض٥ من قول الأول:"ضعيف العصا" وقول الثاني: "صلب العصا" -وهما وإن كانا في الظاهر متضادين- فإنهما كنايتان عن شيء واحد، وهو حسن الرعية والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها، فأراد الأول أنه رفيق بها مشفق عليها, لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخير ما لان من العصا، وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها، عارف بسياستها في الرعي، يزجرها عن المراعي التي لا تُحمَد ويتوخى بها ما تسمن عليه، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرد والتبدد، وأنها -لما عرفت من شدة شكيمته وقوة عزيمته- تنساق في الجهة التي يريدها، وقوله:"بالضرب قد دماها" تورية حسنة٦، ويؤكد أمرها قوله:"صلب العصا".