أصح وأقوى ما سمعناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم١
فإنه ناسب فيه بين الصحة والقوة، والسماع والخبر المأثور، والأحاديث والرواية، ثم بين السيل والحيا، والبحر وكف تميم، مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة؛ إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث؛ فإن السيول أصلها المطر، والمطر أصله البحر على ما يقال٢؛ ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة.
ما يسمى من التناسب تشابه الأطراف: ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم تشابه الأطراف, وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى؛ كقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: ١٠٣] ، فإن اللطف يناسب ما لا يُدرَك بالبصر٣، والخبرة تناسب من يدرك شيئا؛ فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به، وقوله تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحج: ٦٤] ، قال:{الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لينبه على أن ما له ليس لحاجة، بل هو غني عنه جواد به، فإذا جاد به حمده المنعَم عليه.
ومن خفيّ هذا الضرب٤ قوله تعالى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: ١١٨] ، فإن قوله:{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يوهم أن الفاصلة "الغفور الرحيم"، ولكن إذا أُنعم النظر عُلم أنه يجب أن تكون ما عليه التلاوة؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه؛ فهو العزيز؛ لأن "العزيز" في صفات الله هو الغالب، من قولهم:"عزه يعزه عزا" إذا غلبه، ومنه المثل:"من عَزّ بَزّ" أي: من غلب سلب٥، ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا؛ لأن الحكيم من يضع الشيء في محله، والله تعالى كذلك، إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله؛ فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة؛ فكان في الوصف بـ "الحكيم" احتراس حسن٦، أي: وإن تغفر لهم -مع استحقاقهم العذاب- فلا معترض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته.