مدح تأكّد المدح؛ لكونه مدحا على مدح، وإن كان فيه نوع من الخِلابة١.
والثاني٢: أن يُثبَت لشيء صفة مدح، ويُعقَّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا أفصح العرب؛ بيد أني من قريش".
وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا، لكنه باقٍ على حاله لم يقدر متصلا٣؛ فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين٤؛ ولهذا قلنا: الأول أفضل. ومنه قول النابغة الجعدي:
فتى كمُلت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يُبقِي من المال باقيا٥
وأما قوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}[الواقعة: ٢٥، ٢٦] ، فيحتمل الوجهين٦. وأما قوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}[مريم: ٦٢] , فيحتملهما٧، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا٨؛ لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، وأهل الجنة عن الدعاء بالسلامة أغنياء؛ فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
ومن تأكيد المدح بما يُشبه الذم ضرب ثالث؛ وهو أن يأتي الاستثناء فيه مفرغا٩؛ كقوله تعالى:{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا}[الأعراف: ١٢٦] ، أي: وما تعيب منا إلا أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإيمان بآيات الله، ونحوه قوله:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}[المائدة: ٥٩] ؛ فإن الاستفهام فيه للإنكار.
واعلم أن الاستدراك في هذا الباب يجري مجرى الاستثناء، كما في قول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ... سوى أنه الضِّرْغام لكنه الوَبْل١٠