للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يبدوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا. وروى ابن أبي شيبة قال: كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبًا وذلك من ميلين. وأخرج أيضًا أن أبا هريرة كان يأتي الجمعة من "ذي الحليفة".


= البلد في جامع واحد يوم الجمعة وبنوا على ذلك حكمة التعارف الذي به قوام العمران. وهاك ما قاله الحكيم الشهير ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق" في المقالة الخامسة في بحث المحبة: والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق اسم الإنسان. وليس كما قال الشاعر "سميت إنسانًا لكونك ناسي" ظنًّا منه أنه مشتق من النسيان فهو غلط منه. وينبغي أن يعلم أن هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكسبه مع أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها. وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة اتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. ولعل الشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم تتأكد بالاعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الاجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يومًا بعينه في مسجد يسعهم أيضًا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب أيضًا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم، ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر على وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل أسبوع وفي كل يوم فيجتمع بذلك الأنس الطبيعي إلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته. انتهى بحروفه.

<<  <   >  >>