وأما في الحديث الثاني فقد خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدعي بين أمرين لا ثالث لهما، وهما شاهدان للمدعي، أو يمين المدعى عليه، فإذا قيل بأن للمدعي الحق في اليمين مع شاهد فإن هذا ينافي التخيير؛ لأن هذا أمر ثالث لم يذكره الحديث مع أنه ورد في مقام البيان، والاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، لو كان هناك طريق آخر لإثبات الحق، لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: شاهداك، أو يمينه، أو شاهدك ويمينك، وغير ذلك، ولكن الحديث حصر إثبات الحق بشاهدي المدعي، أو يمين المدعى عليه.
فالتخيير كان بين أمرين فقط، فما زاد على ذلك كان منافيا للتخيير فلا يصح.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا الاستدلال بأن معنى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي" معنى عام، ويتناول كل أنواع البينة، وهي تصدق بشاهدين، وشاهد ويمين؛ لأن اليمن يسمى في عرف الشرع شهادة، يؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، أي: أربعة أيمان يقسمها الذي يتهم زوجته بجريمة الزنا، وليس معه شهود يشهدون على هذه الجريمة.
وأيضًا فإن معنى قوله -صلى الله عليه وسلم:"واليمين على من أنكر" يحمل على ما إذا لم يكن مع المدعي أصل الشهادة، ولا خلاف في هذا.
وأما تخيير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدعي بين الشاهدين، ويمين المدعى عليه، فمحمول كذلك على أن المدعي لم يكن معه أصل الشهادة، فكان التخيير بين أن يأتي بالشهادة التي تصدق بشاهد ويمين، وبين يمين المدعى عليه.