للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خلق وتحررا من سلطان الماديات، ومقاومة الشهوات نزوعا الى رب الأرض والسموات، فكان يأخذهم بالصبر على الاذى والصفح الجميل، وقهر النفس لقد رضعوا حب الحرب. وكأنهم ولدوا مع السيف، وكيف لا؟ وهم من أمة اشتهرت بالهمة والشجاعة والفصاحة والنبل وحسن الشيم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقهر همتهم الحربية، ويكبح نخوتهم العربية ويقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسبل به النفوس في غير حين وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دفع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي إلى أن أذن الله لرسوله بالهجرة مع أصحابه.

التقى أهل مكة بأهل يترب لا يجمع بينهما الا الدين الجديد، فكان أروع منظر لسلطان شهده التاريخ فألف الإسلام بين قلوبهم، ولو أنفقا احد ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوبهم، ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين، فكانت تزرى بأخوة الأشقاء.

كانت هذه الجماعة نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام في كل زمان ومكان. وكانت وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهددها وعصمة للإنسانية من الغش والأخطار لذا قال الله سبحانه وتعالى: في حق هذه الجماعة {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (١).

لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بأنفسهم ويذكى جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين وعزوفا عن الشهوات وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا الى الجنة، وحرصا على العلم وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا، قد خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال سبعا وعشرين مرة في ظرف عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال


(١) سورة الأنفال

<<  <   >  >>