وهناك شيء آخر نجده عند اليونان ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة والذي لا يزال أثره قويا في أوربا إلى اليوم، وإلى آخر الدهر والذي أخذ الشرق يتأثر في نظمه السياسية أيضا، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب، وكان الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل هو نظام الملكية المطلقة المستبدة التي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية.
٢- طه حسين: في العقل العربي الحديث ١:
الشيء الذي لا أشك فيه وما أظن أحدًا يشك فيه هو أن لونا من ألوان العقل قد ظهر في عصر من عصور التاريخ القديم في بلاد اليونان وتجاوز حدود هذه البلاد في بعض الأوقات حتى كان الإسكندر المقدوني فخرج بهذا العقل فاتحا للشرق القريب والبعيد، محاولا أن يقره فيه ويبسط سلطانه عليه، ونجح الإسكندر نجاحا عظيما في مهمته هذه بالقياس إلى الشرق القريب بنوع خاص وقد استطاع العقل اليوناني أن يستقر في هذا الشرق ويمازج نفوس أهله حتى يصبح جزءًا منها. ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا العقل مقياس الحضارة في أي أمة من الأمم الشرقية القريبة كما أصبح مقياس الحضارة في الأمم الغربية نفسها، فالأمة متحضرة راقية إذا أخذت بتراث العقل اليوناني وشاركت فيه وأضافت إليه. والأمة غير متحضرة أو غير مشاركة في الحضارة الإنسانية الممتازة