يكن شيئا وأن جريرا أضاف إليه من انحلال الخصال والأخلاق ما لم يكن منه بسبب حتى خلب به الشعراء وقهر النحول ثم لم يمنعه ذلك من أن يظهر للناس كما هو ليثبت لهم أن شعره كان أكبر من غروره.
لقد عرف الدكتور أن المتنبي هو الشاعر الذي رمى شعراء عصره فأصماهم فغلبهم فذهب بأرزاقهم عند الأمراء، كان يستطيع أن يفعل ما فعل جرير وأن يفخر بأبيه السقا على أبي فراس الحمداني وغيره من أشراف الشعراء في عصره، وعرف أن كثيرًا من الشعراء غير جرير قد فخروا بآبائهم على من كان أكرم أبا وأما، فماذا يفعل الدكتور بعد ذلك. إنها لمشكلة تلد مشاكل، إذن فما الذي يضيره أن يقول: أما المتنبي فلم يستطع شعره أن يغلب غروره ولم يستطع أن يضيف إلى أبيه ما ليس فيه.
حقا إن الدكتور طه حسين رجل صاحب حيلة لا تفرغ، وحقا إن له فنا غلب به أهل الفنون وحقا إنه لعبقري، وهذا الدكتور الذي يقول: إن شعر جرير قد أعانه على أن يخلق خلقا جديدًا, فإذا كان المتنبي لا يعرف أباه كما يزعم فإن ذلك لا بأس به لأنه إذا أراد أن يصوره فلن يرجع إلى حقيقته لينتزع منه الصورة كما أن جريرا لم يرجع إليها وإنما المرجع هنا إلى شيطان الشعر فهو وحده الذي لا يخلق أباه خلقا جديدا. وجهد المتنبي في هذا أقل من جهد جرير.
فشيطان أبي الطيب كان أنثى ضعيف المنة قليل الخير يكذب صاحبه في طالب الخيال القوي للآباء. وكان شيطان جرير ذكرًا فحلا قد امتلأ قوة لا يطلب خيالا إلا أدركه به وغالب به الشعراء.
إني أشفق على الدكتور طه حسين من بدوات عبقريته "فهي تصور له