قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال ألفت النظر إلى أمرين هما:
- أن هذا التفسخ الحاصل داخل الكنيسة وخارجها لا شأن له بالديانة المسيحية وإنما هو نتاج المنظومات الفكرية السائدة في المجتمعات الغربية، التي تصادف أنها مجتمعات مسيحية. لو أن تلك المنظومات انتشرت في العالم الإسلامي وأخذت مداها الذي يدعو إليه البعض، لأصاب المجتمعات الإسلامية ما أصاب مجتمعات الغرب المسيحي من تصدعات أو انهيارات.
- أن هذا التيار المدمر والفاسد يلقى مقاومة من جانب تيارات أخرى في الدول الغربية ذاتها، لا تزال تستميت في الدفاع عن العقيدة والفضيلة والأسرة الطبيعية. وقد رأينا أنه في مقابل احتفال الشاذين الذين أقيم في كنيسة "شاذن" فإن خمسين كنيسة أخرى أقامت صلوات توبة مناهضة لذلك الاحتفال، من ثم فإنه يتعذر الادعاء بأن الصورة التي قدمناها تعبر عن واقع المجتمع الغربي كله، وإنما هي تعكس أحد جوانب ذلك الواقع، التي سلطت عليها الأضواء مؤخرا، بعدما بدا أن مثل تلك الظواهر تتنامى وتتمدد في الفراغ الروحي السائد.
نعود إلى سؤالنا: ما الذي جرى؟
رأيي أن ذلك كله من حصاد علمنة المجتمع بما تضمنته من تهميش للأديان وإقصاء مرجعيتها، وإطلاق فلسفة جديدة في العالم الغربي تلغي الغيب وتنصب الإنسان إلها جديدًا، وتعترف بالعقل والمادة والمحسوس، ولا شيء سواها.
أدري أن مصطلح العلمانية في عالمنا العربي، موضع الالتباس الشديد، فهناك سذج يربطون بينها وبين العلم، وهناك أناس طيبيون يحصرونها فيما يسمى بالفصل بين الدين والسياسة، وهناك هواة متحذلقون يفصلونها حسب هواهم وما يتمنونه، فيربطون بينها وبين التقدم والحرية والإبداع، وغير ذلك هناك خبثاء يحتمون بالمصطلح لتصيفية حساباتهم الخاصة مع الإيمان والمؤمنين.
العلمانية الشاملة غير هذا كله؛ وذلك إذ هي في أصلها وفي تطبيقاتها العلمية الملموسة في المجتمعات الغربية دعوة إلى الإيمان بالإنسان وعقله قبل الإيمان بالله والغيب. وفي مقام سابق قلت: إن كلمة "الدنيوية" هي أدق وأصوب في ترجمة مفهوم مصطلح Secularism وهو الأصل الإنجليزي للكلمة، التي ترجمت علمانية في العربية، والباكستانيون كانوا أصح منا عندما ترجموها في لغتهم الأردية إلى "الدنيوية"!
تسعفنا موسوعة الدكتور عبد الوهاب المسيري حول "العلمانية الشاملة" ٤ أجزاء وهي تحت الطبع الآن" بمادة غزيرة في الكشف عن حقيقة الدور الذي لعبته