وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه، فقالوا: ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين؟! ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا، {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}. قال تعالى ردًّا عليهم:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}(الزخرف: ٣٢) يعني بأن الوحي والرسالة رحمة من الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا: إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع إلى الأسواق للقمة عيش وهو يدعي أنه رسول الله {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}(الفرقان: ٧، ٨).
ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول الله، يعني أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوي، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم، حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة ولم تكن لها فائدة تذكر.
أما إنكارهم البعث بعد الموت؛ فلم يكن لهم عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}(الصافات: ١٦، ١٧) وكانوا يقولون: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}(ق: ٣) وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}(سبأ: ٧، ٨).