وبعد هذا الإيراد لما قاله الصحابة والبلغاء في وصف بلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نحب أن نقف عند أمور:
الأول: أن هذه الأوصاف شملت كل ما يتصل بالكلام:
فالرسول قليل الكلام طويل السكوت، لا يتكلم إلا إذا دعت إلى الكلام حاجة، معتدل في إلقاء كلامه، لا يبطئ بطأ ملحوظًا ولا يسرع، وهو -صلى الله عليه وسلم- حسن الصوت جهيره، حلو المنطق عذب الألفاظ، يفخم الحروف حين ينطق بها طبيعة لا تكلفًا، ليس فيه عيب خلقي يجور على الحروف فيلويها أو ينقصها، ولا يعمد إلى التكلف ولا يرضاه، فإن التكلف يجعل الكلام ثقيلًا مملولًا، والتكلف -كما يقول الجاحظ- ما دخل في شيء إلا أفسده.
وتناولت الأوصاف الألفاظ المفردة والجمل المركبة والمعاني، فألفاظه -صلى الله عليه وسلم- مألوفة مأنوسة، إلا حين يقتضي المعنى لفظًا يناسبه، فيختار الرسول اللفظ الأقل إلفًا، ولكنه ينأى عن الغريب الوحشي وعن السوقي المبتذل، وألفاظه جزلة حين يقتضي المعنى الجزالة، رقيقة حين يتطلب المعنى الرقة، وفي الحالتين هي واضحة الدلالة على معانيها، كل كلمة تعبر بدقة عن تمام معناها.
والأسلوب سهل لا تعقيد فيه ولا التواء، آخذ بحظه الوفير من البيان، موجز حيث لا يحمد إلا الإيجاز، مبسوط حيث يقتضي المقام البسط، فِطري مطبوع.
أما معانيه فتمتاز بالصحة، لُحمتها الصدق وسداها الحكمة والحق، بعيدة عن الخيال، منزهة عن المواربة والخلابة والتمويه.