وأفحمهم بأخصر طريق بسؤالهم عن المسلَّمات عندهم، وهي من نوع ما ينكرون، ولذلك سألهم عن الكتاب الذي جاء به موسى، عن من أنزله عليه؟
وحينما يبدأ المعاند في إنكار المسلمات، بإلقاء شبهه عليها، نجد القرآن الكريم -لأن قصده الحق- يأتي بطريقة تُعرف بالانتقال، حيث يترك ما أُلقيت عليه شبهة الخصم، وينتقل إلى ما لا شبه فيه، وذلك كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(البقرة: ٢٥٨).
فإن النمرود قد جادل في الأمور المسلمة، وادعى قدرته على الإحياء والإماتة، وبرغم بطلان ادعائه، فإن إبراهيم -عليه السلام- لا يناقشه فيه، بل ينتقل إلى استدلال آخر لا يجد الملك فيه وجهًا يتخلص به منه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}(البقرة: ٢٥٨) وفي هذا إفحام وإلزام للملك المعاند المكابر؛ لأنه لا يظنه أن يقول أن الآتي بالشمس من المشرق؛ لأن من أسن منه يكذبه.
ومن هذا الانتقال قوله تعالى:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(المنافقون: ٨) وفي هذه الآية إفحام للمنافق، ورد لقوله الذي يزعم عزة المنافقين وذلة المؤمنين، إذ تثبت عزًا وذلًا ولا تنكرهما، لكنها تجعل العزة للمؤمنين والذلة للمنافقين.
أما إن كان الخصم سهلًا لينًا؛ فإن الجدل يلين معه في المناقشة، ويرده إلى أمور مسلمة ابتداء، وذلك كقوله تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}(الأنعام: ١٠١) فقد