أنه هو المحرك لهذا الانتقال، وإنما نذكر ما بنى عليه مذهبه فإنه يوضح لنا غاية الوضوح سبب الانتقال.
وقبل ذكر هذا نبين أنه لماذا فارق الاعتزال ولم يعد إليه وشمّر عن ساعد الجد لنصرد السنة والذبّ عنها، ومقاومة الاعتزال إلى أن لقي ربه في سنة (٣٢٤).
فالأشعري حين تمسك بالسنة تمسك بها بعد أن تَاهَ طيلة ثلاثين سنة في الاعتزال، وعرف دخائله فحين فارقه، فارقه وهو مطلع على دقائقه، خبير بأدلته، فكانت مفارقته مفارقة من لم يقتنع بما جاء فيه. وما يذكر مما دار بينه وبين شيخه أبي علي الجُبَّائي نراه حادثة تنبىء عن آخر المطاف الفكري له، وهو معتزلي قد ملكت على نفسه الطريقة السنية.
وبعد هذه الجولة الفكرية والتراجع عما كان عليه قد اتخذ مذهباً جديداً في العقيدة لم يقف من الأدلة موقفا سلبياً يمرّ بهَا على الأفكار دون بحث فيها، بل كان له موقف خاص، وهو الموقف الفكري الذي يغوص في الأدلة ليستخرج منها النظرة الملائمة للعقل الصحيح المقنعة للنفوس المتشبعة بالمبادىء النظرية العميقة. وهو في أنظاره لا يبعد عن الأدلة الشرعية الثابتة بل يأخذ بها ويطبقها تطبيق حكيم دارس، فلم تمر بذهنه دون أن يكون لها وزنها.
ولم يجعل هذه الأدلة القاطعة خاضعة لما رآه بل أخضع ما رآه للأدلة بلباقة نادرة، وفكرة نيرة. وهذا ما جعل المفكرين المتشبعين بالأدلة القرآنية والحديثية يقبلون على مذهبه، وينتصرون له في كل ما يكتبون على اختلاف أقطار ومذاهب فقهية، وهو ما دعا الكثير من أهل المذاهب أن يركزوا أنه من أهل مذهبهم، فالشافعية يدّعونه لأنفسهم ويرون أنه كان شافعياً، والمالكية يدّعونه لأنفسهم.