شيء وقَرَ في نفوس صنهاجة منذ القدم. وشيء كان يجول في خاطر المعز الفاطمي ولهذا أخر رحيله إلى القاهرة المعزية التي أسسها باسمه جوهر القائد فإنه قد وقع فتح مصر (٣١) إذ سلمت الإِسكندرية سنة (٣٥٨) ولم يرحل إليها. وقد بنى القاهرة والجامع الأزهر جوهر القائد في سنة (٣٥٩). وكذلك بنى القصرين استعدادا لتلقيه، وهو مع ذلك لا يزال مقيما بإفريقية ولم يبارح المنصورية إلا في سنة (٣٦١).
ولم يقم ثلاث سنين وثلاثة أشهر بإفريقية بعد فتح مصر إلا لأمر هام، وهو ما لم يتفطن له أكثرية المؤرخين، ورأى بعضهم من الكتّاب المتأخرين أنه إنما قدم إلى مصر بسبب ثورة القرامطة.
هذا ما رآه هذا الكاتب، وما رآه بعيد جداً عن التحقيق لأنه يستفاد منه أن المعز لم تكن له نية الانتقال إلى القاهرة، فيقال: لماذا أسسها جوهر القائد، ثم إنَّ القرامطة ما كانوا بدرجة مخوفة حتى يذهب إليهم المعز الفاطمي بنفسه، ثم إنه لما انتقل إلى الشرق لم يخرج إليهم بنفسه، وإنما قاتلهم قرب القاهرة، وكفاه هزيمتهم أنه استمالهم بالمال.
فالسبب غير الخوف من القرامطة فإن المعز لا يعجزه أمرهم، ولهذا بقيتُ باحثا عن السبب المؤثر لهذا التأخير حتى ظفرت به في الكامل لابن الأثير حين ذكر نجر يوسف بلكين بن زيري بن مناد، فبعد أن تحدث على جده مناد الذي كان كبيرا في قومه، وكذلك ابنه زيري فإنه أبلى النبلاء الحسن مما جعل القائم الفاطمي وابنه المنصور يعتمدان عليه، ومن أكبر ما أسداه زيري للدولة الفاطمية أنه أسس مدينة أشير، فإنه جعل صنهاجة قومه بين زناتة المفسدة في البلاد، وبين البلاد الآمنة. ولذلك كف شغب زناتة على الدولة الفاطمية، تحدث على بلكّين بن زيري وكيف كان المعز الفاطمي غير واثق به ومطمئن إليه غاية الاطمئنان.