للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكأنهم لم يفرقوا بين مُحالات العقول ومَحاراتها (١) ، فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول، فالسمع يجيء بما تعجز العقول (٢) عن إدراكه، ولا يستقل به، ولا يجيء بما يعلم العقل إحالته.

والأكثرون الَّذين وافقوا جهمًا وأبا الهذيل على هذا الأصل، فرَّقوا بين الماضي والمستقبل، وقالوا: الماضي قد دخلَ في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنَّما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود، لا تقدير دخوله شيئًا بعد شيء.

قالوا: وهذا نظير أن يقول القائل: لا أعطيكَ درهمًا إلَّا وأعطيك بعده درهمًا آخر، فهذا ممكن، والأوَّل نظير أنْ يقول: لا أعطيك درهمًا إلَّا وأعطيك قبله درهمًا، فهذا محال، وهؤلاء عندهم وجود ما لا يتناهى في الماضي محال، ووجوده في المستقبل واجب.

ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: بل الأمر في الماضي كهو في المستقبل، ولا فرق بينهما، بل الماضي والاستقبال أمرٌ نِسْبيٌّ، فكلُّ ما يكون مستقبلًا يصيرُ ماضيًا، وكلُّ ماضٍ فقد كان مستقبلًا، فلا يُعْقَل إمكان الدَّوام في أحد الطرفين، وإحالته في الطرف الآخر.

قالوا: هذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى، وهو لم يزل ربًّا قادرًا فعَّالًا، فإنَّه لم يزل حيًّا عليمًا (٣) قديرًا، ومن المحال أنْ يكون


(١) في "ب، هـ": "ومجازاتها".
(٢) في "ب، ج، د، هـ": "يعجز العقل".
(٣) في "ج": "عالمًا".