للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا كان هذا الحق (١) الذي قد فُطِروا عليه، وخلقوا عليه، قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل، فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى، لا ريب أنهم لو رُدُّوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لِمَا نُهُوا عنه، ولكن مِنْ أين لكم أن تلك الحال لا تزول، ولا تتبدَّل بنشأةٍ أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النَّار مأخذَهَا منهم، وحَصَلتِ الحكمة المطلوبة من عذابهم؟ فإنَّ العذاب لم يكن سُدًى، وإنَّما كان لحكمةٍ مطلوبةٍ، فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمرٌ يُطْلَب، ولا غرضٌ يُقصَد، واللَّه سبحانه ليس يَشْتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه، وهو لا يُعذِّب عبده لهذا الغرض، وإنَّما يعذبه طهرةً له ورحمةً به، فعذابه مصلحةٌ له، وإنْ تألَّمَ به غاية الألمِ، كما أنَّ عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها.

وقد سمَّى اللَّه سبحانه الحدَّ عذابًا (٢) ، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داءٍ دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيًّا بعد كيٍّ ليُخْرِج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة، وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قَطَعَه، وأذاقه أشد الألم. فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طَرَتْ على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟


(١) في "أ": "للحق".
(٢) فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)} [النور: ٢].