وهذا الاعتراض وارد على ما إذا كان الحائل خلقيًّا، والوجه الأول هو الذي حكاه البندنيجي عن الأصحاب حيث قال: إن الشافعي ذكر في أول استقبال القبلة من "الأم": "فكلما كان يقدر على رؤية [البيت] ممن بمكة في مسجدها أو منزل منها أو سهل أو جبل، فلا تجزئه صلاته حتى يستقبل البيت بالصواب".
وقال بعد مسائل من هذا الكتاب:"ومن كان بمكة لا يرى البيت، أو خارجاً من مكة؛ فلا يحل له كلما أراد المكتوبة أن يدع الاجتهاد [في طلب] صواب الكعبة بالدلائل من الشمس والنجوم والقمر والجبال ومهب الريح، وكلما كان عنده دلائل على القبلة".
قال أصحابنا: وليست على قولين، بل على اختلاف حالين:
فقوله الأول [محمول] على ما إذا كان الحائل حادثاً.
وقوله الثاني [محمول] على ما إذا كان الحائل خلقياً.
قلت: لا شك أن [ظاهر] كلامه يقتضي إيجاب طلب اليقين عند القرب، سواء وجد الحائل أو لم يوجد، لكن قوله من بعد:"ومن غاب عنها ... " إلى آخره يدل على أن مراده بما ذكره ها هنا إذا لم يغب عنها، وبه يعرف أن قوله:"أو غاب عنها"، لا فرق فيه بين أن يكون بسبب حائل أصلي أو حادث، وهو ظاهر المذهب؛ كما حكيناه عن "المهذب" وغيره.
ثم ظاهر كلام من حكى الخلاف والوفاق عند وجود الحائل: أنه لا فرق في ذلك بين المكي وغيره وبين من هو بمكة [أو خارجاً عنها قريباً منها، وبالثاني صرح الروياني وغيره]، وقال أبو الطيب: إن من كان بمكة ففرضه [طلب] اليقين، سواء كان الحائل أصلياً أو طارئاً، ومن كان خارجاً عنها: فإن كان مكياً، ففرضه-أيضاً- طلب اليقين كيف كان الحائل، وإن كان غريباً، فإن كان الحائل أصليًّا، ففرضه الاجتهاد، وإن كان حادثاً ففيه الوجهان.