للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الهمة، لم يكن يحمل في جيده منة أحد، فإنه لو أراد أن يرتزق بشعره ويلتمس لتوفرت له الرياسة الدنيوية وانهالت عليه الثروة الفائضة، ولا نحتاج إلى إيضاح أن أبا العلاء كانت حياته بكاملها قدوة ونموذجًا مثاليًّا للتقشف والقناعة، فكأن مرغليوث يريد أن ينظر إلى أبي العلاء من خلال العيون النهمة المادية لأوربا، ينظره فريسة الشره المطرد والنهامة الزائدة، رغم أنه يقول بنفسه عن قصائد صباه في مقدمة السقط (١):

"ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طالبًا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس فالحمد لله الذي ستر بضفة من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر".

فهل هما فاقا أبا العلاء صدقًا وأمانة، أنا اعترف بأن "ريو" صدق فيما أفاد بأن القصيدة الأولى للسقط في مدح سعيد الدولة، لكنه لو سرح هذا المدعي طرفه على عنوان نفس القصيدة التي فيها "ولم يكن من طلاب الفوائد" وورد في النسخ المطبوعة "من طلاب الرفد"، فقوله بأن مدائحه لكسب المال، ليس بعد هذا التصريح إلا العناد والمكابرة والعصبية الجاهلية، وإن البيت التالي الذي أنشده في صباه ليؤكد ما نقول (٢):

قنعت فخلت أن النجم دوني ... وسيان التقنع والجهاد

٢٦ - يدعيان (٣): أن أبا العلاء غادر إلى بغداد للبحث عن المعاش أو الوظيفة أو تجربة الحظ، ولكن أبا العلاء نفى ذلك يوم كان في بغداد ونفاه بعد عودته منها أيضًا حيث يقول:

سيطلبني رزقي الذي لو طلبته ... لما زاد والدنيا حظوظ وإقبال

رحلت لم آت قرواشًا أزاوله ... ولا المهذب أبغي النيل تقويتًا

والموت أحسن بالنفس التي ألفت ... غذا القناعة من أن تسأل القوتا

وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم ... له بارقًا والمرء كالمزن هطال

وإني تيممت العراق لغير ما ... تيمّمه غيلان عند بلال


(١) شرح التنوير على سقط الزند ص ٦.
(٢) شرح التنوير على سقط الزند ص ٦.
(٣) م، ٢١، الأفكار ٤٦، الآداب ٣١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>