فيه من أغانيه ما كان يعجبه ويطرَب له فقال في عرض كلامه إن عشت فسأحسن إلى نفسي. فتدبرت كلامه وفعاله وإذا هو لا يدري كيف يحسن إلى نفسه ولا يفرق بين الإِحسان إلى بدنه بركوب الشهوات وبين الإِحسان إلى نفسه بمعرفة الحقائق والتقرب إلى الله عزّ وجل بأنواع القربات فكان من عاقبة أمره أن حسده نظراؤه فأزالوه عن موضعه ونكبوه في نعمته وأشمَتوا به أعداءه ثم وقع في أمراض لم يجنها عليه إلا انهماكه في مطعمه ومشربه وتمكنه من نيل لذَّته.
ثم أقول أيضًا لو كانت معرفة النفس أمرًا سهلًا ما تعبت بها الحكماء ولا تبرّمت بها الجهال ولما أنزل في الوحي القديم (يا إنسان أعرف ذاتك) وقد قال الله عزَّ من قائل في محكم كتابه {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك} إلى آخر الآية. وروينا في الخبر الصحيح أن من عرف نفسه عرف ربه. وفي حديث آخر من عرف ربه لم يشقَ. وقال المسيح - عليه السلام - بماذا نفع امرؤ نفسه؟ باعها بجميع ما في الدنيا ثم ترك ما باعها به ميراثًا لغيره وأهلك نفسه ولكن طوبى لامريءٍ خلَّص نفسه واختارها على جميع الدنيا. وفي الوحي القديم من لم يعرف نفسه ما دامت في جسده فلا سبيل له إلى معرفتها بعد مفارقتها جسده، من لم يتفكر في كل شيء خفي عليه كل شيء، من لم يعرف معدن الشر لم يقدر على النجاة منه.
اعلم أن الأفلاك المختلفة دائرة بالحركات المختلفة للعلل المعروفة عند الراسخين في العلم فلذلك يقع التضادّ بين الخلق في عالمنا هذا ولا يقع هناك تضادّ البتة. والكون والفساد لاحق بعالم النشءِ والبلى وليس هناك كون ولا فساد فرياح الآفات تهبُّ عندنا بالهلكات وتتبعها الزلازل والرجفات ولا سبيل إلى الاحتراس منها إلا بالهرب منها إلى حيث لا يلحقها شيءٌ من مكروهها.
تمييز الباقي من الفاني أشرف النظر، اطَّراح المُؤَن أشرف قِنية، نظر النفس للنفس هو العناية بالنفس، ردع النفس للنفس هو العلاج للنفس، عشق النفس للنفس هو المرض للنفس، النفس العزيزة هي التي لا تؤثر فيها النكبات، النفس الكريمة هي التي لا تثقل عليها المؤونات، ولا تصديق بما لا برهان عليه، الكذب فضّاح، والكاذب يستشهد أبدًا بالحلف، لسان العلم الصدق، من عَدِم الفهم عن الله عزّ وجل لم يجز أن يستمع موعظة حكيم.