كِتَابُ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ
اعْلَمْ أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ آثَرَ الْعُزْلَةَ لِفَوَائِدِهَا كَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ وَتَرْبِيَةِ الْعِلْمِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَنَاهِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لَهَا بِالْمُخَالَطَةِ كَالرِّيَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمُسَارَقَةِ الطَّبْعِ الْأَخْلَاقَ الرَّدِيئَةَ وَالْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ مِنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَكْثَرُ السَّلَفِ فَذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُخَالَطَةِ وَاسْتِكْثَارِ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّحَبُّبِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الدِّينِ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِنَّ فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يُمْكِنُ نَيْلُهَا مِنَ الْمُخَالَطَةِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَمُغَالَبَةِ النَّفْسِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلْمُخَالَطَةِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ تَفُوتُ بِالْعُزْلَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا هِيَ فَوَائِدُ الْمُخَالَطَةِ وَالدَّوَاعِي إِلَيْهَا؟ فَاعْلَمْ: أَنَّهَا هِيَ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ، وَالنَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ، وَالتَّأْدِيبُ وَالتَّأَدُّبُ، وَالِاسْتِئْنَاسُ وَالْإِينَاسُ، وَنَيْلُ الثَّوَابِ وَإِنَالَتُهُ فِي الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ، أَوِ اعْتِيَادُ التَّوَاضُعِ، أَوِ اسْتِفَادَةُ التَّجَارِبِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَحْوَالِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا.
فَأَمَّا الْعِلْمُ وَالتَّعْلِيمُ: فَهُمَا أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى التَّعَلُّمِ لِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ عَاصٍ بِالْعُزْلَةِ، وَمَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّبَرُّزِ فِي عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَالْعُزْلَةُ فِي حَقِّهِ قَبْلَ التَّعَلُّمِ غَايَةُ الْخُسْرَانِ، وَلِهَذَا قَالَ «النخعي» وَغَيْرُهُ: «تَفَقَّهْ ثُمَّ اعْتَزِلْ» وَمَنِ اعْتَزَلَ قَبْلَ التَّعَلُّمِ فَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ مُضَيِّعٌ أَوْقَاتَهُ بِنَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ فِي هَوَسٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ فِي الْأَوْقَاتِ بِأَوْرَادٍ يَسْتَوْعِبُهَا وَلَا يَنْفَكُّ فِي أَعْمَالِهِ بِالْبَدَنِ وَالْقَلْبِ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنَ الْغُرُورِ، وَيَكُونُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ ضُحْكَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعُبَّادِ، فَالْعِلْمُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَلَا خَيْرَ فِي عُزْلَةِ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيمُ: فَفِيهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ مَهْمَا صَحَّتْ نِيَّةُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ.
وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالنَّاسِ: فَبِالْكَسْبِ وَالْمُعَامَلَةِ إِذْ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ. وَمَنِ اكْتَسَبَ مِنْ وَجْهِهِ وَتَصَدَّقَ مِنْهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعْتَزِلِ الْمُشْتَغِلِ بِالنَّافِلَةِ.
وَأَمَّا النَّفْعُ: فَهُوَ أَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ إِمَّا بِمَالِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ، فَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ، فَفِي النُّهُوضِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ثَوَابٌ، وَذَلِكَ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَعَ الْقِيَامِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ الْعُزْلَةِ.
وَأَمَّا التَّأْدِيبُ بِنُصْحِ الْغَيْرِ وَالتَّأَدُّبِ: وَنَعْنِي بِهِ الِارْتِيَاضَ بِمُقَاسَاةِ النَّاسِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute