للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِالْبُرْهَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَبَعَثَكَ اللَّهُ رَسُولًا» ؟ فَكَانَ يَقُولُ: «نَعَمْ» ، فَيُصَدِّقُ، هَذَا إِيمَانُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يُخْرِجُ مِنَ الْغُرُورِ.

وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ فَأَنْ تَعْرِفَ فَسَادَ مَا وَسْوَسَ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْغُرُورِ بِالتَّبَصُّرِ فِي دَعْوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَتَصْدِيقِهِمْ، فَإِنَّهُ أَيْضًا يُزِيلُ الْغُرُورَ، وَهُوَ مُدْرِكٌ يَقِينَ الْعَوَامِّ وَأَكْثَرَ الْخَوَاصِّ، وَمِثَالُهُمْ مَرِيضٌ لَا يَعْرِفُ دَوَاءَ عِلَّتِهِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ عَلَى أَنَّ دَوَاءَهُ النَّبْتُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّهُ تَطْمَئِنُّ نَفْسُ الْمَرِيضِ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِتَصْحِيحِ ذَلِكَ بِالْبَرَاهِينِ الطِّبِّيَّةِ، بَلْ يَثِقُ بِقَوْلِهِمْ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَلَوْ بَقِيَ مَعْتُوهٌ يُكَذِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ عَدَدًا وَأَغْزَرُ مِنْهُ فَضْلًا وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِالطِّبِّ، بَلْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ فَيَعْلَمُ كَذِبَهُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَعْتَقِدُ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَغْتَرُّ فِي عِلْمِهِ بِسَبَبِهِ، وَلَوِ اعْتَمَدَ قَوْلَهُ وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ كَانَ مَعْتُوهًا مَغْرُورًا، فَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إِلَى الْمُقِرِّينَ بِالْآخِرَةِ، وَالْمُخْبِرِينَ عَنْهَا وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ الدَّوَاءُ النَّافِعُ فِي الْوُصُولِ إِلَى سَعَادَتِهَا وَجَدَهُمْ خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ رُتْبَةً فِي الْبَصِيرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَاتَّبَعَهُمْ عِلْيَةُ الْخَلْقِ عَلَى أَصْنَافِهِمْ، وَشَذَّ مِنْهُمْ آحَادٌ مِمَّنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ وَمَالَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى التَّمَتُّعِ فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَجَحَدُوا الْآخِرَةَ، وَكَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لَا يُزِيلُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إِلَى مَا اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُ هَذَا الْغَبِيِّ الَّذِي اسْتَرَقَتْهُ الشَّهَوَاتُ لَا يُشَكِّكُ فِي صِحَّةِ أَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِيمَانِ كَافٍ لِجُمْلَةِ الْخَلْقِ، وَهُوَ يَقِينٌ جَازِمٌ يَسْتَحِثُّ عَلَى الْعَمَلِ لَا مَحَالَةَ، وَالْغُرُورُ يَزُولُ بِهِ.

وَأَمَّا غُرُورُ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَبِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو عَفْوَهُ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ الْأَعْمَالَ، وَتَحْسِينِ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ تَمَنِّيهِمْ وَاغْتِرَارِهِمْ رَجَاءً، وَظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّجَاءَ مَقَامٌ مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ وَرَحْمَتَهُ شَامِلَةٌ وَكَرَمَهُ عَمِيمٌ، وَأَيْنَ مَعَاصِي الْعِبَادِ فِي بِحَارِ كَرَمِهِ، وَإِنَّا مُوَحِّدُونَ فَنَرْجُوهُ بِوَسِيلَةِ الْإِيمَانِ.

وَرُبَّمَا كَانَ مُسْتَدْرَجَاتُهُمُ التَّمَسُّكَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِمْ كَاغْتِرَارِ الْعَلَوِيَّةِ بِنَسَبِهِمْ، وَمُخَالَفَةِ سِيرَةِ آبَائِهِمْ فِي الْخَوْفِ وَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ آبَائِهِمْ إِذْ آبَاؤُهُمْ مَعَ غَايَةِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى كَانُوا خَائِفِينَ، وَهُمْ مَعَ غَايَةِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ آمِنُونَ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاغْتِرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

أَيَنْسَى الْمَغْرُورُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ وَلَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَلَمْ يُرِدْ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هُودٍ: ٤٥] فَقَالَ تَعَالَى: (يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هُودٍ: ٤٦] ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ.

وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو بِتَقْوَى أَبِيهِ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشْبَعُ بِأَكْلِ أَبِيهِ، وَيَرْوَى بِشُرْبِ أَبِيهِ، وَيَصِيرُ عَالِمًا بِعِلْمِ أَبِيهِ، وَيَصِلُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَرَاهَا بِمَشْيِ أَبِيهِ. فَالتَّقْوَى فَرْضُ عَيْنٍ فَلَا يَجْزِي فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شَيْئًا، وَكَذَا الْعَكْسُ.

بَيَانُ الْغَلَطِ فِي تَسْمِيَةِ التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ رَجَاءً:

فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ الْغَلَطُ فِي قَوْلِ الْعُصَاةِ وَالْفُجَّارِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ

<<  <   >  >>