كِتَابُ ذَمِّ الْغُرُورِ
إِنَّ مِفْتَاحَ السَّعَادَةِ التَّيَقُّظُ وَالْفِطْنَةُ، وَمَنْبَعَ الشَّقَاوَةِ الْغُرُورُ وَالْغَفْلَةُ، وَالْمَغْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْفَتِحْ بَصِيرَتُهُ لِيَكُونَ بِهِدَايَةِ نَفْسِهِ كَفِيلًا، وَبَقِيَ فِي الْعَمَى فَاتَّخَذَ الْهَوَى قَائِدًا وَالشَّيْطَانَ دَلِيلًا، وَلَمَّا كَانَ الْغُرُورُ أُمَّ الشَّقَاوَاتِ وَمَنْبَعَ الْهَلَكَاتِ لَزِمَ شَرْحُ مَدَاخِلِهِ وَمَجَارِيهِ، وَتَفْصِيلُ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُ الْغُرُورِ فِيهِ لِيَحْذَرَهُ الْمُرِيدُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ فَيَتَّقِيهِ، فَالْمُوَفَّقُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ عَرَفَ مَدَاخِلَ الْآفَاتِ وَالْفَسَادِ فَأَخَذَ مِنْهَا حِذْرَهُ، وَبَنَى عَلَى الْحَزْمِ وَالْبَصِيرَةِ أَمْرَهُ.
بَيَانُ ذَمِّ الْغُرُورِ وَحَقِيقَتِهِ:
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لُقْمَانَ: ٣٣ وَفَاطِرٍ: ٥] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) [الْحَدِيدِ: ١٤] الْآيَةَ، كَافٍ فِي ذَمِّ الْغُرُورِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» .
فَالْغُرُورُ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ عَنْ شُبْهَةٍ وَخُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ إِمَّا فِي الْعَاجِلِ أَوْ فِي الْآجِلِ عَنْ شُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ إِذَنْ مَغْرُورُونَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُ غُرُورِهِمْ.
وَأَشَدُّ الْغُرُورِ: غُرُورُ الْكُفَّارِ وَغُرُورُ الْعُصَاةِ وَالْفُسَّاقِ ; فَأَمَّا غُرُورُ الْكُفَّارِ فَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [الْبَقَرَةِ: ٨٦] .
وَعِلَاجُ هَذَا الْغُرُورِ: إِمَّا التَّصْدِيقُ بِالْإِيمَانِ، وَإِمَّا بِالْبُرْهَانِ. أَمَّا التَّصْدِيقُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النَّحْلِ: ٩٦] . وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ) [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٨] . وَقَوْلِهِ (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الْأَعْلَى: ١٧] وَقَوْلِهِ: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) [لُقْمَانَ: ٣٣، وَفَاطِرٍ: ٥] .
وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ فَصَدَّقُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَلَمْ يُطَالِبُوهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute